الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة أشياء عن حفريات سلوى العايدي وعن جيل من الفنانين المسكونين بسؤال التغيير والتجديد

نشر في  18 نوفمبر 2025  (12:32)

بقلم عزالدين بوركة-شاعر وباحث جمالي مغربي

يسعى الفنان وهو يشتغل في معمله /ورشته /فضائه إلى أن يحفر بمقدار ما يستطيع في سطح اللوحة، أن يحفر في بياضها ليستخرج أحافيره /أشكاله. إنه يلامس السطح والعمق، ولا يهمه سوى البحث والحفر، حفر أركيولوجي بالأحرى، فالسطح والعمق عنده سيان.

إذ أينما وجد الأشكال توقف وأخرجها إلى عالم الوجود بعدما كانت في عالم خفي خلف البياض. لهذا أجدني وأنا إزاء أعمال الفنانة التونسية سلوى العايدي أنحت تعبيرا يصف هذه الأعمال الحفرية، حيث يتعلق الأمر بمفهوم "حفريات الفن"، إذ لا يشتغل الفنان بافتراض مسبق أو نظرة مسبقة، بل إنه يأتي العمل "عاريا" من كل الأفكار، يحفر فقط بـ"معوله"/أدواته وأنامله، لا يعبأ إلا بعملية الاشتغال متجاهلا النتيجة، من حيث إن الأثر الفني يكشف عن نفسه رويدا رويدا في طور العملية التشكيلية.

و في الوقت نفسه، تهتم الأركيولوجيا (علم الآثار) بشكل متزايد بمجال الفن المعاصر، والفن عموما لا ينفلت منها، إنه أحد الفضاءات التي تبحث وتحفر فيها. وواحدة من أجمل لقاءات الفن المعاصر وعلم الآثار هي بلا شك ما نلمسه في أعمال دانيال سبوري Daniel Spoerri، مؤسس الواقعية الجديدة قبل نصف قرن.

وكما أعمال الفنان الألماني أتو ديكس Otto Dix صاحب المقولة الشهيرة "الفنان عين العالم ولكن ينبغي عليه أن يذهب إلى أبعد من المرئي"، ومن هذه المقولة يمكن أن نلج أعمال سلوى العايدي من حيث إنها حفر أركيولوجي يبحث عن الكشف عن اللامرئي والابتعاد بما استطاع من مسافة عن المرئي.

تنتمي أعمال العايدي التشكيلية إلى أعمال فناني الألفية الجديدة، جيل من الفنانين المسكونين بسؤال التغيير والتجديد. جيل متشبع بما بلغته إليه الحداثة الفنية من سقف. جيل متعطش إلى استغوار العوالم الجديدة المحطمة للجدران، عوالم الفنون المعاصرة.

 

لهذا فحينما تشتغل العايدي فإنما تنطلق من مبدأ الحفر الأركيولوجي، لا تهتم إلا بالعملية التي تقوم بها، من حيث إن الأثر المعاصر يحضر باعتباره "ورشة" atelier (أركيولوجية) لا منتوجا، فيتحول بالتالي فضاء اشتغالها الفني إلى فضاء تجريبي لا متناه.

لا تبحث هذه الفنانة على إعادة صياغة العالم المرئي أو تركيبه تركيبا مرئيا ومشخصا ولا حتى مجردا، فإنما ما تروم إليه هو الكشف عن اللامرئي فيه أي ذلك الجانب السيمولاكري الذي يشكله، الجانب غير الظاهر والذي يحركه. لهذا وهي تشكل أشكالها تعتمد على الأحماض لـ"تنقش" و"تحفر" آثارها على الصفائح التي تعتمدها أسنادا لأعمالها البصرية.

كما أنّ اشتغالها لا يتوقف عند الاعتماد على الأحماض، بل إننا نجدها تنوع أسنادها من صفائح معدنية وخشبية وقماش وغيرها، معتمدة على أصباغ طبيعية وزيتية ودهنية وأكريليك وغيرها... حيث إن الأهم بالنسبة لسلوى العايدي ليس هو النتيجة فحسب، بل طريقة الاشتغال عينها، باعتبار كل عمل هو حلقة متصلة ومنفصلة 'في الآن ذاته- داخل ورشتها والاشتغالها البحثي الاستتيقي.

تطوع العايدي بالتالي المادة وتجعلها طوع اليد، بالمعنى الهايديغري للمصطلح؛ فهي لا تنطلق من العالم لتصله إليه، أو من شكل لتعيد محاكاته، أو من معطى لتشكّلها reformer، بل من اللامرئي لتبلغ به عوالم المرئي؛ أي حينما تحفر فهي لا تسعى إلى العمل حاملة أفكار معينة إليه، بل إنها تجعله يكشف عن نفسه باعتباره موجودا سابقا، من حي إن "ماهية العمل تسبق وجوده"، إن صح تعبيرنا هذا.

تعمل إذن هذه الفنانة منفتحة على ذاتها وحلمها وحتى الأسطوري والحكائي الذي تشبعت به، جاعلة من الأثر "سريرة لذة" حيث يتحرر الجسد من كل قيود التشخيص التقليدية، فيحضر حرا طليقا في كامل شبقية وإروسية. جسد عار من المسبق والقيود والإيديولوجيات الخانقة له، يكشف عن نفسه من حيث إنه فائض باللذة. وذلك ضدا عما يتعرض إليه الجسد من قمع وستر وحجب في هذه الجغرافية الناطقة بالعربية.

إنها لجرأة كبيرة من هذه الفنانة القادمة من عوالم تونس الزيتونة، المتسمة بالرغبة الكبرى في التحرر من قيود الماضي والتقليدانية، وكما الرغبة في الانتصار للجسد الأنثوي الذي ظل مقموعا لقرون مضت، منزوع الحرية ومسجونا في أقفاص التحريم التي تحجب عنها "الذكورية العربية" الضوء. وبالتالي فليس من الصدفة أن نجدها تشتغل "بالضوء" لإنتاج خطوط وأشكال وسيلويتات les silhouettes أعمالها، إنه لخروج من الظلمة إلى النور، من التخفي إلى الظهور، ومن العدم إلى الوجود، الوجود بالجسد.

لا تستند أركيولوجيا الفن عند سلوى العايدي على إعادة إبراز الصورة التي لا نراها أو لم نراها أو تلك التي كانت ومضت، كما يفعل المؤرخون والفنانون الساعون إلى إبراز الحقيقة كأنها أمر يسهل بلوغه وحدوثه، بل إنها تستند على تشخيص متمرد على كل التصوير التشريحي والواقعي، لا يهمها أن تحاكي أي صورة، حيث إنها تنفتح على المخيلة، وبالتالي فهي تسرد ما أدركته مخيلتها لا عينها.

وإنها حينما "تحفر" فإنما تنطلق مما يهتم به البحث الأركيولوجي، أي الاهتمام بالآن والهنا. أي الاكتراث باللحظة، من حيث ما تتطلبه من اشباع للغريزة /للمخيلة /للجسد /للذة... إنها بالتالي "تلاحظ، بعيون علماء الآثار، تشابك المواد التي تشكل الكتلة غير المتجانسة لحاضرنا".

يقودني هذا المعطى كله، إلى أن أصنف أعمال العايدي ضمن خانة المنفلت والمعاصر، إذ إنها أعمال لا تهتم بالجدران، فتتخطاها وتقفز عليها، تتنقل بين الحدود، ولا تستوطن فضاءً بعينه، إنها أعمال حرة طليقة، كجسد إيروسي لا يتوقف عند لذة معينة أو موضع محددا، فهو لا يؤمن إلا باللحظة التي لا تفتأ تتكرر لا بصيغة متشابهة بل متغيرة تماما، إذ لكل لحظة "اندفاعها" الخاص.

لهذا أشبّه آثارها الفنية بتلك الآثار الذي يبحث عنها علم الآثار (الأركيولوجية)، لا يهتم بالضرورة بما هو بعيد أو قديم أو غامض، لكنه يدرس الأمور التي تركب حاضرنا وما يشكله. على هذا النحو، فإن علم الآثار في الوقت الحاضر يكشف عن اهتمام أساسي، ألا وهو كونه ليس تتويجا للعملية الأثرية، ولكنه "نقطة الانطلاق"، "فتحة، تفتح على كامل سمك الماضي الذي سبق الحالي والذي سجل فيه"، كما يقول العالم الأركيولوجي لورانت أوليفيه.

إننا بالتالي إزاء أعمال لا تهادن النزعة التشخيصية ولا تحابي التجريد المتفشي، ولا تحاكي شيئا ولا تبرز وتكشف وتظهر إلا ما تغب المخيلة أن تكشف عنه، معتمدة على الحفر الأركيولوجي "الفني" قدر المستطاع في سطح السند، أو بلغة بول فاليري فإن أعمق شيء هو "الجلد" والبشرة نفسهما، جلد وبشرة السند في حالة آثار سلوى العايدي، إنها أعمال لا تفتأ تعود لـ"نقطة البدء" لكن بنفس مغايرة، كعود أبدي يجدد نفسه باستمرار.